في إحدى رحلات المقناص مع الشيخ زايد رحمة الله عليه خرج الشيخ زايد مع مرافقيه للقنص وكان معهم الشيخ سالم بن حم.
كانت أوامر الشيخ زايد بأن لا يطلق من كانوا معه في السيارة من الصقارين صقورهم إلا بإذنه.
وكان أحد رجال الشيخ زايد قد أطلق طيره قبل أن يأذن له الشيخ زايد، ومما أساء الأمر؛ ضياع الطير.
وكان المتعارف بين الصقارة أنه من أضاع طيرة يفترق عن الجماعة لكي ينادي على طيرة ويسترجعه فهي تحتاج الى وقت طويل لكي يتمكن من استرجاعه.
وكان هذا قريب من وقت المغرب حين انطلق الشيخ زايد ومرافقيه عائدين نحو المخيم، تاركين هذا الرجل وراءهم ليبحث عن طيرة وإسترجاعه.
وإذا هم في الطريق سأل الشيخ زايد مرافقيه الذين معه قائلا:
– من هو غلطان فينا انا يا الرجال ؟؟؟
يريد ان يعلم إجابة مرافقيه مما وقع فيه الرجل من خطأ وتركه ليبحث عن طيرة ولكي يعلم من يصدقه ومن يجامله فقال:
فرد الجميع موافقين الشيخ زايد بأن الرجل أخطأ، وكان ابن حم صامتا لم يتكلم.
فقال الشيخ زايد سائلا ابن حم: ما رمست يا ابن حم؟؟
فحين وجه الشيخ زايد سؤاله ابن حم رد ابن حم قائلا:
– خوي زايد ما يستاهل ينترك.
فعندما سمع الشيخ زايد جواب ابن حم رجع عائدا الى الرجل لكي يحمله ومنها تأكد الشيخ زايد بأن ابن حم قد ربح الاختبار الذي أعده.
دروس وعبر:
أمر الشيخ زايد من كانوا معه في السيارة من صقارين بان لا يطلقوا صقورهم إلا بإذنه، وهذا كان لأسباب كثيرة منها انه يعلم متى واين يجب على الصقّار إطلاق طيرة ولكيلا تعم الفوضى بين الصقّارين بل يكون لكل شخص دورٌ ووقتٌ لا يضايق رفيقه الاخر.
وكان يجب على من عند الشيخ تنفيذ أوامره والانقياد لها، وهذا مشرعٌ إلاهي في جميع الأمور.
حيث امر الله عباده المؤمنين بإطاعة ولي الامر كان الأمر صغيرا ام كبيرا، وقد ذكر رب العزة في كتابه العزيز:
((يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)) سورة النساء الآية 58.
وهكذا على كل مؤمن ان لا يخرج عن طاعة ولي الأمر، وأن ينقاد الى أوامره لما فيه صلاح للأمة وتوحيد الكلمة، وقد ذكر أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال:
((من أطاعني فقد اطاع الله ومن عصيني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني)) أخرجه مسلم رقم (1835) 3/1466
وقال أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم:
((من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات ميتة جاهلية ومن قاتل تحت راية عميه يغضب لِعُصْبةٌ او يدعو الى عُصْبة او ينصر عُصْبة فَقُتِلْ فَـقَتْـلَةُ جاهلية ومن خرج على امتي يضرب برَّها وفاجرها ولا يتحاش من مؤمنها ولا يفي لذي عهد فليس مني ولست منه)) أخرجه مسلم رقم (1848) 3/1476
وقد قال الطحاوي رحمة الله عليه:
ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا ولا ندعوا عليهم ولا ننزع يداً من طاعتهم ونرى طاعتهم من طاعة الله عزوجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية و ندعوا لهم بالصلاح والمعافاة (متن العقيدة الطحاوية ص 47)
لم يكن الشيخ زايد فضا غليظ القلب والشاهد على ذلك دوام محبته وذكره وذكر أفضاله على السنة الناس الى وقتنا هذا.
وكان أحد الرفاق متسرعا فقد أطلق طيره قبل ان يأذن له الشيخ زايد او يحين دوره وأضاعه، فَطُلِبَ من الرجل أن ينزل لكي يستدعي طيره ويسترجعه وكان هذا الأمر يحتاج الى وقت طويل.
فتحرك الشيخ زايد وباقي الرفقة بالسيارة وكان الوقت بداية الغروب، لم يأبه الشيخ زايد لزلة الرجل او لضياع الصقر لأنه كما قيل:
المال والولد لأبيه
فالشيخ زايد اب حنون على الجميع وكريم معطاء، فالصقر صقره والرجال ابناءه واخوانه.
ولم يكن الشيخ زايد مرتاحا من ترك الرجل لوحده وفي هذا الوقت، فأراد أن يعود لكي يقلّه فبادر بسؤال من كانوا عنده يريد ان يمتحن رفاقه من منهم من يجاريه ومن منهم من يصدقه القول.
فبادرهم بسؤاله من هو غلطان فينا انا يا الرجال؟ (قاصدا تصرف الرجل صح ام تصرفي انا هو الأصح)
فكان الكثير منهم من أبدوا موافقتهم في تركه بسبب خطأه ولكي يستدعي طيره حينها لم يرد ابن حم وظل ساكتا فوجه الشيخ زايد السؤال الى ابن حم بعد ان استغرب من سكوته فرد ابن حم قائلا بعبارته التي اُعْجِبَ بها الشيخ زايد حين سمعها وهي:
خوي زايد ما يستاهل ينترك.
فهذا مطابقا كما قيل:
صديقك من صَـدَقك لا من صَـدَّقَـكَ
او كما قال ابن الاعرابي:
لعمرك مالُ الفتى بذخيرةٍ ولكن إخوان الثقات الذخائرُ
ويدل سكوت الشيخ سالم بن حم وإجابته بعبارته حين تطرق اليه السؤال على حكمته فجاء بعبارته التي وافقت الحق ومصونة عن الحشو، فالحكمة هي أغلي شيء يمكن ان يمنحه الله للإنسان بعد الإيمان والتحلي بمكارم الأخلاق وهي أمل كل الناجحين وقيل الحكمة هي ضالة المؤمن.
ولقد ذكر أرسطو بان الحكمة هي رأس العلوم والأدب وتلقيح الأفهام ونتائج الأذهان، وكما قال جورج هيغل (فيلسوف الماني) بان الحكمة هي أعلى المراتب التي يمكن ان يتوصل اليها الانسان وبالتالي فالحكيم أعلى شأنا من الفيلسوف، كما هي ايضا وضع الشيء في موضعه وفعل ما ينبغي كما ينبغي وفي الوقت الذي ينبغي.
وقد ذكر ابن سيناء في كتابه (عيون الحكمة)، بأن الحكمة استكمال النفس الإنسانية بتصور الامور والتصديق بالحقائق النظرية والعلمية على قدر الطاقة البشرية.
لذلك نرى من اكتسب الحكمة فهو الشخص العاقل الذي يرجح الامور نحو الصواب بما امتلكه من خبرات عبر تجاربه في الحياة، وهذا ما نجده في الشيخ سالم بن حم فقد علمته مدرسة الشيخ زايد وملازمته له وتجارب الحياة الكثير من أمور الحكمة.
ومن اهم تجليات الحكمة: إدراك حجوم القضايا على وجهها الصحيح ورؤية اللحظة الراهنة واستشراف ما بعدها.
وقد قال الجاحظ في كتابه (البيان والتبيين): مدح رجل قوما فقال: أدَّبتهم الحكمة وأحكمتهم التجارب …..
لذلك كان للحكمة الفضل الكبير في رقي الشعوب وتهذيب النفوس فهي شجرة تنبت في القلب وتثمر في اللسان.
وتتجلى حكمة الشيخ سالم بن حم في هذا الموقف:
1- عدم الاستعجال في طرح أفكاره ولكنه يتأنى ويمتحن الوقت ويختار افضله فالحكيم إذا طرحت عليه فكره او امرا ما فأنه يبدأ بالتفكير في المسألة ويحدد أسبابها وعلّتها ثم يعمل على إيجاد حلا لها وهذا قبل ان ينطق به لسانه
كما قال الامام علي رضي الله عنه:
الرفق يُمْنٌ والأناة سعادة فتأنّ في أمرٍ تُلاقِ نجاحا
او كما قال الشاعر القروي:
إذا رُمـتَ أمـراً فــلا تعجـلنْ وإلاّ نَدِمـــتَ على فِـــعْلِهِ
فـما عَثـــرَةُ المَـــــرءِ قتّــــالةٌ إذا كان يمشي على مهْلِهِ
وعند طرحه الموضوع كان كلامه معبرا عما بداخله وكان خيرا وله فأئدة ترجى ومختصرا فقد قيل خير الكلام ما قل ودل. كما قال الشاعر:
خـير الكــلام قـليلُ على الكـثيرِ دلـيلُ
والعيُّ معنىً قصيرٌ يحـويـه لـفظٌ طــويلُ
2- الصدق في التعامل فالحكيم لا يعرف النفاق بل يفعل الشيء الذي يقتنع به ولا يقول إلا ما هو مقتنع به، وإذا وعد صدق، وإذا تحدث كان الصدق عنوان كلامه.
فقد قال الشاعر:
عليك بالصدق ولو أنه احرقك الصدق بنار الوعيد
كما قال الشاعر ناصحا:
الصدق عز فلا تعدل عن الصدق واحذر من الكذب المذموم في الخلق
3- الصبر والحلم والتأني يجب على الحكيم ان يتحلى بالصبر وسعة الصدر.
وقد قيل: التأني حصن السلامة، والعجلة مفتاحُ الندامة.
فقد قال ابن الرومي في الصبر:
إني رأيت وفي الأيام تجربةٌ للــصبر عــاقبة محمــودة الأثـــرِ
وقـلَّ من جـدَّ في امرِ يؤمله واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
وقال القطامي في التأني:
قد يُدرِكُ المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزّللُ
وربَّمـا فات قـوماً جُـلُّ مطلبِهِم من التأني وكان الأمرُ لو عجلوا
وقال الشاعر في الحلم:
ألا إنّ حلـم المرء أكــرم نــسبة تسـامى بها عــند الفخـــار حـــليمُ
فيــارب هـب لي مــنك حـــلماً فإنني أرى الحلمَ لم يندم عليه كريمُ
او كما قال محمد بن كناسه وهي مطابقة لأفعال الشيخ سالم بن حم:
وللحلم سلطانٌ على الجهل عنده فما يستطيع الجهل أن يترمرما
وأكثر ما تلقـــاه في القــوم صـامتا وإن قـال بـذَّ القـائـلين وأحــكما
يُـرى مــستكينا خــاضعا مــتواضعا ولـيثـاً إذا لاقى الكتيبـة ضـيغما
4- الموضوعية: وهي نظرته لكل الأمور، فلا يغلب هوى نفسه بل يكون في أغلب الأوقات يتسم بالحيادية والعقلانية في رؤية الأحداث، ويأخذ بالرأي والرأي الآخر، ولا يستبد برأي دون الآخر
كما قال الشاعر:
إنَّ اللبيب إذا تفـرَّق أمــره فتق الأمور مناظراً ومشاورا
وأخو الجهالة يستبدُّ برأيه فتراه يعتسف الأمور مخاطرا
وما قيل في الرأي السديد:
وما شيءٍ من الأشياء أقضي على الهجمات من رأيٍ سديدِ
5- إبداء الاعذار للصديق او الرفيق والعفو والتسامح
وقد قال ابن سيرين وهو أحد التابعين وأخرجه ابن عساكر:
إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرا، فإن لم تجد له عذرا فقل له عذرا
وقال الشاعر دعبل الخزاعي:
تأنَّ ولا تعجل بِلومِكَ صاحباً لعلَّ له عذراً وأنتَ تلومُ
وهذا ما نراه عندما رجع الشيخ زايد الى صاحبه لكي يقله، وهي ما كانت في نفسه، وتصريح ابن حم عندما علم ما بنفس الشيخ زايد فالنفوس تتآلف وتعلم ما في مكنونها.